آل العريس

 

ينسبون للإمام علي.. وباسمهم شارع ومحلة ومحطة

برزوا في ميادين الوطنية والسياسة والفكر والطب والمحاماة والهندسة و .. صناعة الحلويات

ارتبط اسم أسرتهم باسم رائد الحركة الإصلاحية الشهيد عبد الغني العريسي (1891 - 1916)

 

من الأسر الإسلامية البيروتية واللبنانية والعربية البارزة، وهي من الأسر المنسوبة لآل البيت الشريف. تعود بجذورها إلى القبائل العربية المنتشرة في بلاد نجد والحجاز، لا سيما قبيلة بني هاشم.

وقد أسهمت قبيلة العريس في الفتوحات العربية لمصر وبلاد الشام والمغرب العربي، وقد توطن القسم الأكبر منها في المغرب العربي، ومنه انتقل بعض أفراد الأسرة إلى فلسطين وإلى بيروت للدفاع عن ثغرها ضد الاعتداءات الإفرنجية، ومنطقة العروس وشواطئها في جدة من أهم المنتجعات في المملكة العربية السعودية.

وتشير المصادر التاريخية، بأنها تنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من خلال انتسابها إلى الإمام محمد بن الإمام علي الرضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

وبذلك يمكن القول بأن أسرة العريس في بيروت والمغرب العربي من الأسر المنسوبة لآل البيت، لهذا فقد تولى علماء من آل العريس عبر التاريخ نقابة السادة الأشراف، وعمدة التجار المعتبرين، وشاه بندر التجار. كما تولى البعض منهم مناصب عسكرية وسياسية واجتماعية وعلمية مهمة.

وتشير المصادر المغربية والأندلسية إلى ارتباط أسرة العريس (العروس) بأسرة الرئيس. وقد لقب أبي الحجاج بن نصر عام 702هـ باسم الرئيس أبي الحجاج صهر السلطان أبي عبد الله ثالث الأمراء النصريين.

وقد أورد لسان الدين ابن الخطيب ما نصه: «... فأمر ابن عمه محمد بن علي بن أحمد المعروف بالرئيس العروس صهر السلطان أيضاً، بضرب عنقه بيده...». (لسان الدين ابن الخطيب: تاريخ إسبانيا الإسلامية (كتاب أعمال الأعلام)، ص 292) .

كما أشارت مصادر الأنساب إلى أن أسرة العريس تلتقي بدورها بأسرة طيارة وطيارة العجوز، وهي من الأسر المنسوبة لآل البيت النبوي الشريف.

(أنظر كتاب بحر الأنساب المسمى بالمشجر الكشاف لأصول السادة الأشراف، تأليف الشيخ الإمام السيد محمد بن أحمد بن عميد الدين علي الحسيني النجفي النسابة، تحقيق الشريف الحسيني السيد حسين محمد الرفاعي الحنفي الشافعي، ص 71).

ومن خلال دراسة وثائق سجلات المحكمة الشرعية في بيروت، ووثائق العائلة، تبيّن بأن هناك عائلات بيروتية ولبنانية وعربية ذات صلة نسب وأصل واحد مع أسرة العريس. ومن بين هذه الأسر أسر: زنتوت، بكري، أعرابي ناصر، ناصر وسواها.

برز من الأسرة في العهد العثماني الحاج أحمد بن الحاج بكري العريس عمدة التجارة المعتبرين، والضابط أحمد أفندي العريس الذي تولى عام 1861 رتبة قول أغاسي تفنكجي، وهو ضابط مسؤول عن البنادق والرماة. وكان عضواً في مجلس شورى بيروت في عهد الوالي المصري إبراهيم باشا (1831-1840)، والحاج بكري بن الحاج أحمد العريس. كما برز من الأسرة العلامة الشيخ عبد الله العريس أحد أهم علماء بيروت (1918-2008) المتوفى في 7 آذار (مارس) 2008 في بيروت. وقد أشار الشيخ زياد زبيبو في صحيفة «اللــواء» بمقال نعى فيه الراحل التقي الكبير.

كما برز من الأسرة الصيدلي منير العريس، والنقابي الشهير مصطفى العريس (1912-1981) رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال سابقاً. كما عرف المربي الكبير رشاد العريس (بابا رشاد) أحد أهم التربويين في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت.

وتشير سجلات المحكمة الشرعية في بيروت إلى العديد من آل العريس من بينهم السادة الأشراف: أحمد، الحاج أحمد، عبد الله بن أحمد، الحاج عبد القادر، والحاج محمد. وفي التاريخ المعاصر برز المهندس عبد المنعم العريس رئيس مجلس بلدية بيروت بين أعوام (1998-2010)، الذي أسهم إسهاماً بارزاً في نهضة بيروت وتطورها، وفي نهضة بلديتها، وذلك بتوجيهات من الرئيس الشهيد رفيق الحريري.. رحمه الله، شقيق السادة: عدنان وسمير والدكتور محمد والمرحوم عبد الغني.

كما عرف من الأسرة السيد عبد السلام العريس أحد كبار المصرفيين ورجال الاقتصاد في لبنان، عضو اتحاد جمعيات العائلات البيروتية. كما عرف السيد وليد العريس أحد المسؤولين في جامعة بيروت العربية. كما عرف المرحوم الحاج المهندس بكري عبد الرحمن العريس (المتوفى في 20 أيار 2010)، أولاده: المهندس شادي وداني والدكتورة شذى العريس. أشقاؤه: المهندس عبد الرحمن وكاظم وخالد وسامي وبلال العريس، شقيقاه من والدته المهندس مصباح مزبودي والمؤهل أول عبد الرحمن مزبودي.

وعرف من أسرة العريس حديثاً السادة: أحمد، أسامة، بشير، بهجت، بلال، توفيق، خالد، خليل، رفيق، زهير، زياد، سعد الدين، سليم، سمير، شفيق، مختار، وليد، يوسف وسواهم، ورجل الأعمال شفيق العريس، والدكتورة هلا العريس الأستاذة الجامعية المتميزة، والمؤرخ الدكتور محمد العريس والطبيب الدكتور فؤاد العريس المتميز في طبه وفي آرائه الفكرية والثقافية والدينية، والمهندس فؤاد العريس وشقيقه وليد العريس أحد مدراء بنك لبنان والمهجر. كما برزت السيدة زينة العريس مديرة العلاقات العامة في جامعة بيروت العربية، وهي عقيلة النائب البيروتي الدكتور عمار حوري.

ولا بد من الإشارة إلى أنه يوجد في بيروت أسرة مسيحية من آل العريس عرف منها السيد بول عريس رئيس نقابة أصحاب المطاعم في لبنان، والسادة: ألبير، أنطوان، إيلي، بولس، بيار، جوزيف، وسواهم.

ومن الأهمية بمكان القول، أنه نظراً لإسهامات وعطاءات آل العريس في بيروت، فقد أطلقت بلدية بيروت على شارع مهم قرب منطقة النويري، اسم شارع العريس ومحلة العريس ومحطة العريس، حيث كان يتوقف ترامواي بيروت عندها. كما كان يوجد في بيروت في منطقة الباشوراء «برج العريس»، وهو أحد الأبراج العاملة في حماية بيروت.

 وقيل بأن هذا البرج كان يتصل بمغارة تنفذ إلى محلة المزرعة قبلة أي جنوباً. كما أطلقت بلدية بيروت اسم العريس على شارع في طلعة برج أبي حيدر (حوض الولاية) قرب الحديقة إِزاء المنزل السابق للرئيس سامي الصلح.

والعريس لغةً هو الشاب المتزوج حديثاً، فيقال له العريس نسبةً إلى حفل الزفاف أو العرس الذي أقيم له.

كما إنه مصطلح يطلق على الشاب المتأنق باستمرار، فيشبّه بأنه «العريس». كما إنها تنسب إلى منطقة في شبه الجزيرة العربية، على غرار شواطئ العروس في جدة.

 

ارتبط اسم الأسرة في بيروت باسم رائد الحركة الإصلاحية الشهيد عبد الغني العريسي (1891-1916) الذي قام بدور فكري وسياسي وتنظيمي في سبيل تنظيم المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913، وهو الذي طالب بإصلاحات سياسية وإدارية في ولاية بيروت والولايات العربية. كما طالب باستقلال العرب عن الدولة العثمانية، مما كان له تأثير مباشر بإعدامه على يد جمال باشا القائد التركي عام 1916. وسبق للشهيد عبد الغني العريسي أن أثرى الحياة الصحافية في بيروت ولبنان، عندما قام مع فؤاد حنتس بتأسيس صحيفة «المفيد» عام 1909 وله فيها مقالات تؤكد على أنه كان «دينامو القومية العربية» ثم كتب عدة مقالات في صحيفة «فتى العرب» عام 1913. له مؤلفات عديدة منها: البنين، والمختار من ثمرات الحياة.

 

الشهيد عبد الغني العريسي (1891-1916) شهيد العروبة والحرية والإصلاح

«لقد بات من الضروري تصحيح تاريخ الشهداء اللبنانيين، فبعد الحملات غير العلمية التي سيقت ضد هؤلاء بفعل مرارة السيطرة الفرنسية على بلادنا منذ العام 1918 ولما كانت الأفكار ما تزال عالقة في أذهان البعض بأن هؤلاء الإصلاحيين الشهداء كانوا خونة أو عملاء لفرنسا، فإنه من الضروري تسليط الأضواء علمياً على هؤلاء وتصحيح ما علق في أذهان الناس من أخطاء، لأن الأتراك الاتحاديين بعد عام 1909 كانوا من ألد أعداء العرب».

 

وتكريماً للشهيد عبد الغني العريسي، فإننا نخصص له هذه الدراسة:

عبد الغني العريسي (1891-1916) ولد في بيروت المحروسة، والده محمد بن عبد الرحمن العريسي، وهو على غرار أكثر العائلات البيروتية من أصل يعود إلى المغرب العربي، وتحديداً فأصل عائلته من ليبيا من منطقة «الزاوية» وما يزال إلى الآن عائلة في ليبيا من آل العروسي. تلقى عبد الغني العريسي علومه الأولى في بيروت في الكلية الإسلامية الأزهرية التي ساهمت بشكل بارز في بث الوعي الإسلامي والقومي في بيروت والبلاد الشامية. وعمل في التدريس فترة في الكلية الإسلامية، ثم ترجم عن الفرنسية كتاب «البنين» وألفّ كتاب «المختار من ثمرات الحياة» وفي العام 1909 أصدر صحيفة «المفيد» بالاشتراك مع فؤاد حنتس التي استمرت بالصدور إلى العام 1915. وكانت قد نقلت، «المفيد» إلى دمشق بعد أن بدأت الحرب العالمية الأولى، كما قام بدور بارز في تأسيس «جمعية العربية الفتاة» عام 1911 وفي تأسيس نادي «الحرية والائتلاف» عام 1912 كما كتب في المقتطف وسواها.

ولما كانت طموحات عبد الغني العريسي كبيرة، فقد قرر السفر إلى باريس لمواصلة دراساته العليا، وقد سافر بالفعل في كانون الثاني 1912 والتحق هناك بمعهد الصحافة والعلوم السياسية. وبعد مضي ما يقارب السنة وسبعة شهور عاد إلى بيروت يحمل دبلوماً عال من معهد باريس للصحافة والعلوم السياسية.

وبدون أدنى شك فإن إقامة عبد الغني العريسي في باريس وإطلاعه على علوم الغرب وأفكارهم، قد زاد من أفكاره وتفهمه للكثير من الأمور السياسية والاجتماعية. غير أنه عرف عنه من خلال صحيفته «المفيد» أنه كان رجلاً متوقد الذهن، جريئاً، عربياً لا يرى تناقضاً بين عروبته وعثمانيته. لقد طالب مراراً بالإصلاحات في ولاية بيروت والولايات العربية، وصدف أن عاد في أوائل عام 1913 من باريس لفترة مؤقتة، وكانت حركة الإصلاح قائمة في ولاية بيروت، فعقد اجتماع في دار المجلس البلدي من كافة القوى الإسلامية والمسيحية حيث انتخبوا ممثلين عنهم لإعلان «الجمعية الإصلاحية» ومطالبها وتقديمها إلى الوالي، وقد انتخب عبد الغني العريسي عضواً في هذه الجمعية.

 

آراؤه وأفكاره ومواقفه السياسية

يعتبر عبد الغني العريسي من الشبان العرب اللبنانيين الذين تميّزوا بنضوج قومي وإسلامي. فقد آمن بوجود الأمة العربية، وضرورة تحقيق وحدتها، ورأى «أننا عرب قبل أي صبغة سياسية، حافظنا على خصائصنا وميزاتنا وذاتنا منذ قرون عديدة، رغماً مما كان ينتابنا من حكومة الآستانة من أنواع الإدارات كالامتصاص السياسي أو التسخير الاستعماري أو الذوبان العنصري». ثم رأى العريسي (من خلال مقال في «المفيد» عام 1909) أن اللغة عامل أساسي في تكوين الأمة والمحافظة على كيانها. ولذلك فهو يرى «حياة العرب بحياة لغتهم» كما لاحظ أنه لا بد من تعزيز الرابطة القومية العربية.

وكان العريسي يطالب باستمرار بالمساواة بين الأتراك والعرب، ورفض معاملة العرب معاملة «الغالب للمغلوب» لأن العرب هم الأكثرية العثمانية، ومن خلالهم تقوى الدولة العثمانية، ولأن العرب هم «قاعدة الدولة». ومما قاله «آلينا على أنفسنا أن نحافظ على هذه المملكة، على مكانتنا، على جنسيتنا، على مساواتنا، فلا أرض بعد اليوم تستعمر، ولا أمة تسخّر، فإنما نحن الرعاة لا الرعية».

وطالب العريسي بمشاركة العرب الفعلية في السلطنة العثمانية، لأنهم كانوا في تلك الفترة ثلاثة عشر مليوناً، أي أكثر من نصف سكان السلطنة. ورفض إسكات صوت العرب، لأن معنى ذلك البحث عن وسائل أخرى للوصول إلى الحقوق العربية المشروعة. ثم رأى اعتماداً على القانون وعلماء الحقوق، أن الدستور العثماني غير مستوفٍ للشروط لأن العرب لم يشاركوا في صياغته وهم نصف السكان. وكان باستمرار يهاجم سياسة الاتحاديين (جمعية الاتحاد والترقي) بسبب تعصبها القومي الطوراني العنصري. وقال: ما يريده الاتحاديون «أن تُفنى كل لغات العناصر العثمانية، وتبقى لغة واحدة، أن تسحق كل الشعوب، فيمتص مصاصها عنصر واحد، أن تتضور كل الأقوام ليشبع فرد واحد، أن تفتقر كل الجماعات ليُغنى فريق دون غيره...».

 

التنبيه من الخطر الصهيوني

كان عبد الغني العريسي من أكثر الناس اهتماماً بفلسطين والمخاطر الصهيونية على الأراضي المقدسة. وكانت «المفيد» من أكثر الصحف نقاشاً لموضوع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. ومما أشارت إليه «المفيد» عام 1912 في مقال تحت عنوان «الصهيونيون في حيفا»:  «إلى مقام الولاية الجليلة نرفع هذه الصرخات الأليمة... ما كان سكوتنا عن المسألة الصهيونية، إلا بعد أن رأينا كلامنا يذهب أدراج الرياح، يوم كان للاتحاديين صولة على الأمة، وتساهل مع الصهيونيين... أما اليوم، وقد تبدلت الحال، فعسى أن تنتبه الحكومة الحاضرة إلى ما أغضت عنه الحكومة الغابرة، يهاجر أهل بلادنا إلى أميركا، ويهاجر الصهيونيون إلى بلادنا. ولا ريب بأنه سيأتي علينا يوم إذا استمر الحال على هذا المنوال يصبح العربي في بلده «أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام». وكانت «المفيد» تحذر باستمرار من أخطار الحركة الصهيونية على الدولة العثمانية وعلى الشعب الفلسطيني.  كما ركزت «المفيد» وباستمرار على أخطار الدول الاستعمارية لا سيما إنجلترا وفرنسا وأطماعهما في الولايات العربية. ورفض رفضاً قاطعاً الأهداف الأوروبية والأجنبية عامة في المنطقة، كما طالب بإعداد العدة لمقاومة أي محاولة استعمار أو احتلال.

 

الكرامة وعزة النفس والأنفة

«قد أدهشنا وأذهلنا ما رأيناه في فرمان جلالة السلطان محمد الخامس بإعدام محمود بشير، من ألفاظ التمجد والتعاظم التي لا ترضى بها الأمة... وقد جاء في أوله يخاطب الوالي أدهم بك على هذا الوجه: «افتخار الأعالي والأعاظم المستجمع جميع المعالي والمفاخر، المختص بمزيد عناية الملك الدائم من مميزي رجال دولتي العلية، الحائز والحاصل الوسام المجيدي ذي الشأن من الطبقة الأولى، والي ولاية بيروت أدهم بك دام علوه».

ورأى في مقال له عام 1911 «إن دمشق قاعدة البلاد العربية العثمانية، ومنار الهداية للشعوب الإسلامية، فإذا انطفأ نورها أظلمت الدنيا في وجوه أخواتها. كما هي الحال في يومكم هذا. وإذا استنارت ونهضت تفجرت النهضة من أطرافها وانبعثت نشأة الإسلام من رقدتها، فحركت من المؤمنين ساكناً ومن قومنا كامناً».

 

أمجاد العرب وبأس الشباب

لذا كان يحرص باستمرار على التذكير بأمجاد العرب، وبالاعتزاز بالانتماء للأمة العربية، ومهاجمة الممارسات التركية الخاطئة، كما أشار في مقال له في «المفيد» في 19 شباط 1912 إلى هذه الممارسات بالقول: «إنهم يهملون البلاد، ويهرقون دم العباد، فلا ينبغي من الأمة عرق لأرضها، ولا يخفق قلب لأبنائها، ولا يسأل الوزراء عما يفعلون...» وهاجم الاتحاديين في «المفيد» في 23 أيلول 1912 بالقول: «فأولى بالغلاة الاتحاديين أن يستيقظوا من أحلامهم، فينظروا نظرة العقلاء في سياسة الدول الحاضرة مع شعوبها، فيعلموا أن الضغط على العواطف القومية، وفكرة تحويل الشعوب، وصبغها بصبغة واحدة، من قواعد سياسة القرون الوسطى، أما محور سياسة الدول الحاضرة، فهو مراعاة العواطف، وإرضاء الخصائص، وتوسيع الصلاحية لكل قبيل...».

وفي مقال له في 15 كانون الأول 1913 في «فتى العرب» حدد صفة العربي ومن تنطبق عليه هذه التسمية فقال:

«نعني بالفتى كل من جمع في نفسه بأس الشباب وسداد العقل وصحة القلب، مهما تفاوتت مدارج العمر، وبالعرب كل من ربطته بهذه الأمة وحدة اللغة، وصلة النسب ونزعة العرب. هذا مذهبنا في الجنسية العربية، نثبته على اختلاف مع علمان الألمان والفرنسيين في تحديد الجنسية. فإن الأول لا يتطلبون لصحة الجنسية غير وحدة اللغة والنسب، والآخرين لا يشترطون غير النزعة. أما نحن فلا نعتبر العربي إلا إذا أعرقت فيه الشروط الثلاثة... فالعربي من وصلته رابطة من نسب ووحدة من لغة، وكان تواقاً للعرب، نزاعاً إليهم، يغار عليهم غيرة البطل النبيل، فإذا استجمع هذا، حقت عليه كلمة الواجبات الوطنية لتأييد الحقوق العربية».

وكان العريسي ينتقد باستمرار محاولات فرنسة أو تتريك بيروت سواء بواسطة المدارس أو الكتب أو مراكز البريد العثماني. وطالب في 24 آب 1909 في صحيفة «المفيد» بالتنبه لمحاولات بعض المدارس الأجنبية التي لا تدرس اللغة العربية إلا اختياراً. ونبه إلى خطورة إهمال العربية، ولم ير مانعاً من تعلم العربية والتركية ولغة أجنبية أخرى الفرنسية أو الإنكليزية «إن بيروت أرض عثمانية عربية... إن أعظم واجب يتحتم على العرب حباً بالمحافظة على الوطنية العثمانية إتقان اللغة العربية.

 

القضايا الطائفية والبيروتية واللبنانية

 وحذر الذين ينفثون السم بين الطوائف، لئلا تتكون جامعة، فتقطع أيدي المتغلبين، ورفض إخضاع الأديان والطوائف للمآرب السياسية.

وطالب بالاهتمام بالعلم وإنشاء المدارس في بيروت وكل البلاد السورية، لأن ذلك مرتبط بالتطور والرقي والعمران. وكتب من باريس في 14 آذار 1912 بعد أن قصف الأسطول الإيطالي بيروت «... وكدنا نطير لبيروت ندفع عنها الأذى بأيدينا، فيصيبنا ما أصاب إخواننا، وتسيل دماؤنا كما سالت دماء جنودنا، ألا وأن خير الدماء قطرات تسيل من أجل الدفاع عن الدولة...».

ومن الأمور الهامة التي عالجها عبد الغني العريسي قضية انتخاب مفتي لبيروت، فقد كتب في «المفيد» في 12 آذار 1909 مقالاً حول خلافات المسلمين بشأن منصب الإفتاء في بيروت، أسف فيه على عوامل الأحقاد والتباغض من أجل هذا الشأن. ومما قاله: «إن في بيروت حزبين لأمر الإفتاء حزب الأستاذ الشيخ أحمد أفندي عباس الأزهري، وحزب الأستاذ الشيخ مصطفى أفندي نجا، وكلاهما غصنان لا يجوز للوطنية أن تتوغر عليهما، فتفقد ساعداً شديداً وزنداً حديداً... ونحن اليوم في حاجة إلى التعاضد والتواد، لا إلى التقاطع والتدابر، فتوادوا أيها الأحزاب... فلا تدعوا مدينة أنتم من رجالها تتداعى إلى الاضمحلال، وتقرضها التفرقات والانقسام، ويفنيها البغض والشحناء...».

وكتب العريسي في اليوم التالي في الصحيفة ذاتها مقالاً آخر حول منصب الإفتاء بسبب استمرار الخلافات بين آل سلام وأنصارهم وآل الصلح وأنصارهم، وعليه فقد مضى على مجلس الإدارة جلستان، ولم يتوصل خلالهما إلى أية نتيجة أو أي قرار. ومما أشار إليه عبد الغني العريسي في مقاله حول صفات المفتي: «فينبغي لوالي الولاية أن يعلم أن منصب الإفتاء منصب جليل ذو مكانة عالية ومنزلة سامية، لا يسوغ أن يعلوه إلا ذوو الكفاءة والعلم الراسخ والهمة البليغة والجأش الرابط والذكاء النبيه، لأنّا قوم لا نرغب في تقبيل الأيدي، بل في واجبات تحتم على صاحب هذا المنصب، نذكرها متى وقع الوقع. ومما يجب على ولي الأمر أن يعلم أن هذا المنصب لا يجوز أن تمسه يدي الوساطة، فلا ينبغي له أن يعمل برأي هذا الفريق إرضاء لدعوته، ولا بمشورة هذا الملأ حباً في تأييده، بل عليه أن يسير السيرة الحسنة في إتباع الحق، والأخذ بالعدل، والعمل بالقانون. القانون يقول إذا طمحت نفسا رجلين إلى منصب الإفتاء، فعليهما تأدية الامتحان كما ورد الأمر من المشيخة الإسلامية في العاصمة... نحن في حاجة ماسة إلى رجل يعلم كيف يتولى زعامة هؤلاء الناس، فيختط لهم خطة مثلى، إذا ساروا برشدهم الطريق السوي، وإذا ضلوا يسكن روعهم عند الفتنة، ويستفزهم للحق إذا توانوا، ويأخذ بأيديهم إلى طيب الحياة إذا هانوا، ويربأ بهم إلى مستوى يطل على العناصر، فتحمد أمرهم وتشكر سعيهم...».

هذا وقد انتهى الأمر إلى تعيين الشيخ مصطفى نجا مفتياً لبيروت المحروسة في الفترة الممتدة (1909-1932).

 

نصائح ابن الـ (21) لأعيان بيروت

كانت الجمعيات الثقافية والتربوية قد أقامت في 28 كانون الثاني 1912 حفلاً وداعياً لعبد الغني العريسي قبل سفره إلى باريس، وذلك في منتدى الكلية العثمانية، دعي إليه وشارك فيه جمعية أبناء العثمانية، جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، جمعية مآثر التربية، عمدة الكلية العثمانية، عمدة دار العلوم، الجمعية العلمية العثمانية، ورجال الصحافة في بيروت، وفريق كبير من الأعيان والأهلين، وقد ألقي في الحفل عدة خطب لكل من: أحمد مختار بيهم، الأمير نسيب أرسلان، الشيخ أحمد طبارة، الطبيب بشير القصار، عبد القادر سعد الدين غندور، عارف بك النكدي، عمر أفندي حمد.

وقد رد عليهم العريسي بكلمة شكر قال فيها، وهو ابن (21) سنة:

«... يا قومي إني ألتمس توجيه بصركم إلى أمر خطير، ولو لم أكن في موقف وعظ وتذكير. غير خاف أن أمتنا في موقف حرج شديد، مما يتألب عليها من قوة العناصر الزاحفة المغتصبة للحقوق، فلا يقينا هذا الشر، ولا يدرأ عنا هذا الخطر إلا القوة العاملة، ألا وإنه لا حق دون قوة.

يا قومي للفرد حق مقاومة الظلم والجور بالوسائط الشرعية... فإن الصراخ من أجل الحقوق لا يفيد شيئاً، إذا لم تؤيده القوة...» وطالب بالاعتماد على العلم والرحلة في طلب العلم، وعلى الأنفة والإباء «... على هذه القوائم قد نشأ صاحبكم في هذه الكلية التي يديرها أستاذنا الرئيس. وها أنني أصرح على ملأ الأشهاد أنني لم أتلق من هذا الرئيس الجليل إلا شيئاً واحداً، ألا وهو الثبات على المتاعب، والتجلد في المصائب، والصبر على المكروه في طلب الحق... هذا سيدكم مفتي الثغر [الشيخ مصطفى نجا] لا اجتمع به في مكان إلا ويذكر ابن حزم أشهر القائلين بالتجدد، فنصيحتي إلى إخواني التجدد ثم التجدد».

 

المؤتمر العربي الأول في باريس 1913

من بين النشاطات السياسية المميّزة في حياة عبد الغني العريسي ملاحقته الدؤوبة في طلب الإصلاح للولايات العربية وفي ضرورة اتباع اللامركزية السياسية لهذه الولايات. وكانت فكرة المؤتمر العربي الأول عام 1913 في باريس قد ظهرت بناء على آرائه وآراء عوني عبد الهادي (نابلس) ومحمد المحمصاني (بيروت) وجميل مردم (دمشق) وتوفيق فايد (بيروت) وبالاتفاق مع بعض القوى اللبنانية في باريس تلك القوى التي خدعت هؤلاء الشباب وعملت سراً ضد العروبة وتعاملت مع فرنسا وفي مقدمة هؤلاء شكري غانم وشارل دباس وندره المطران وسواهم.

وفي باريس تم انتخاب لجنة الجالية العربية للتحضير للمؤتمر، وكان عبد الغني العريسي في عدادها. وقد أصدرت اللجنة بياناً حددت فيه أهدافها بالقول: «... ذلك ما حمل الجالية على الاجتماع والبحث عن التدابير الواجب اتخاذها لوقاية الوطن المحبوب من الطوارئ وإصلاح أمور بلادنا على قاعدة اللامركزية». وجاء في البيان أيضاً بأن اللجنة أرادت أن تظهر للأجانب أيضاً «أن العرب يدرأون عادية الاحتلال من أية دولة كانت ويحتفظون بحياتهم الوطنية، وتصارح الدولة العثمانية بوجوب تطبيق الإصلاحات اللامركزية في بلاد العرب».

وفي نيسان 1913 أصدرت «لجنة الجالية العربية في باريس» بياناً موجهاً إلى أبناء الأمة العربية أكدت فيه بأن سبب انعقاد المؤتمر العربي في باريس هو المطالبة بالإصلاح وباللامركزية ولحفظ البلاد من السيطرة الأجنبية، وللحيلولة دون خطر الاحتلال أو الاضمحلال، وطلبت أن تكون المراسلات التي سترسل إلى اللجنة باسم كاتبها عبد الغني العريسي – باريس – 17 – شارع كلود برنارد.

ولما افتتحت جلسات المؤتمر العربي الأول في باريس في 18 حزيران 1913 ألقى رئيس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي كلمة تضمنت موقف المؤتمر من السياسة العثمانية ومن المطالب الإصلاحية. وفي 20 حزيران من بعد ظهر يوم الجمعة ألقى عبد الغني العريسي كلمة تحت عنوان «حقوق العرب في المملكة العثمانية» أوضح فيها حقوق العرب السياسية وقال: «فنحن عرب قبل كل صبغة سياسية. حافظنا على خصائصنا وميزاتنا وذاتنا منذ قرون عديدة رغماً مما كان ينتابنا من حكومة الاستانة من أنواع الإدارات كالامتصاص السياسي أو التسخير الاستعماري أو الذوبان العنصري» وانتقد ممارسة حكومة الاتحاديين بقوله: «تعودت هذه الحكومة أن تعامل الجنسيات العثمانية معاملة الغالب للمغلوب على قاعدة «حق الفتح» فنحن نصرح على رؤوس الأشهاد بأنه إذا كان في استطاعة الحكومة أن تدعى «حق الفتح» في بلاد البلقان مثلاً فلا تستطيع أن تدعيه لاحقاً ولا حقيقة في البلاد العربية. فإنما قد تثبّت قدم هذه الدولة في بلادنا بمساعدة من سلفنا كما يعرف ذلك كل متعمق في التاريخ. ولهذا ننكر كل الإنكار «حق الفتح» فإنما نحن قاعدة هذه الدولة من قبل ومن بعد لا أسرى مسخّرون».

وحول العلاقة والرابطة – العثمانية قال: «أما ما يتعلق بالسلطنة فإننا نصرح أمام العالم الأوروبي بأننا لا نفكر فيه ما دام الدستور جارياً على معنى الدستور، وأنه لا تتطرق إليها فكرة الانفصال عن هذه السلطنة ما دامت حقوقنا فيها مرعية محفوظة».

 

التعصب للعروبة

ويلاحظ بأن عبد الغني العريسي بالرغم من أنه تلقى علومه العليا في فرنسا واطلع على الثقافات الأوروبية غير أنه استمر متعصباً لعروبته، ففي 21 حزيران أثناء انعقاد الجلسة الثالثة للمؤتمر حاول أحد الحاضرين (واسمه يوسف فهمي) أن يتكلم باللغة الفرنسية، فاحتج عبد الغني العريسي . وقال: أنا احتج على التكلم باللغة الفرنسية في جلسة أعلن رسمياً أن المذكرات والخطب فيها تجري المذاكرات باللغة العربية. وقد أيده في ذلك أحمد مختار بيهم الذي طلب بدوره إسكات يوسف فهمي. وفي نهاية الجلسة قرأ عبد الغني العريسي قرارات المؤتمر العربي الأول في باريس، وجرت مناقشات بينه وبين الحاضرين.

وبعد مضي فترة قصيرة زادت عن الشهر بقليل عاد عبد الغني العريسي إلى بيروت فوصلها في 10 آب 1913 بعد أن أمضى عشرة أيام في القاهرة وهو في طريقه من باريس إلى بيروت. ولما وصل إلى بيروت بدأ ينشط على الصعيد السياسي والإصلاحي متعاوناً مع سليم سلام وأحمد مختار بيهم وسواهما من الإصلاحيين. وعاد إلى الكتابة في «المفيد» وأحياناً في «فتى العرب» وهي ذاتها «المفيد» ولكن باسم جديد هرباً من الملاحقة العثمانية. ومما كتبه قبيل الحرب العالمية الأولى في أيار 1914 «الإصلاحات العثمانية ومكانة العرب الذاتية» وقد تضمن هذا المقال مطالب العرب ويقظتهم القومية فقال: «فالشعب العربي أول شعب قام منذ ستماية سنة ....، يضع بنفسه خطته الإصلاحية... فالعرب يكتبون صفحة جديدة في حياة الدولة العثمانية بأن كانت حركتهم بين شعوبها أول حادثة وطنية، ومؤتمرهم أول مؤتمر في التاريخ العثماني منذ عرف التاريخ العثماني... فلا الأرمن ولا الصرب ولا البلغار ولا الجبل الأسود ولا البوسنة ولا الهرسك وضعوا بأنفسهم لائحة إصلاحية. بل أوروبا هي التي أملت لهم. أما العرب فقد أملوا بأنفسهم لأنفسهم ما يحتاجون. وهذا آية على كفاءتهم الذاتية وتفوق مراميهم الوطنية وسداد مداركهم السياسية. والفرق العظيم بين شعوب تتوسل بإرادة غيرها، وشعب يضع جماع ثقته بنفسه. وهنا فخر العربي بذاته... وعليه فإنا نستحلف ساسة الآستانة كما استحلفنا قومنا، بأن يسرعوا في صدقهم ويلبوا إخوانهم، العرب ركنهم المكين إن هوا فأولئك قد هووا، وقاعدة ملكهم الركين، إن قعدوا فَبِهم قد ربض، وإن نهضوا فَبِهم قد نهض».

 

المداهمات والوشايات

ولما ابتدأت الحرب العالمية الأولى في صيف 1914 هامت الشبهات على كل إصلاحي في ولاية بيروت لا سيما الذين اشتركوا في مؤتمر باريس، ولما وصل أحمد جمال باشا إلى المنطقة كقائد للفيلق التركي الرابع، بدأ بالمداهمات والاعتقالات، وجرى مرة في العام 1915 أن ألقى القبض على سليم سلام – نائب في مجلس المبعوثان – وكان يومذاك مع عائلته في «بقين» من أعمال الزبداني. وبدأ سلام يبحث عن سبب اعتقاله فربط ذلك بزيارة قام بها عبد الغني العريسي له. ومما قاله سليم سلام: «كنت افتكر كثيراً لماذا السبب لطلبي. فلم يخطر لي إلا مسألة واحدة هي أن عبد الغني العريسي كان قبل مدة زارني في «بقين» وبقي عندي نحو أسبوع وأخبرني عن تأليف جمعية تحت رياسة الأمير فيصل وأن الغرض منها دخول الملك حسين في الحرب ضد الدولة وتشكيل حكومة عربية بمعاضدة الحلفاء... وأن من أعضاء هذه الجمعية رضا باشا الركابي والشيخ بدر الدين الحسيني...».

ولما اجتمع جمال باشا بسليم سلام أنكر الاتهامات المساقة ضده وضد الإصلاحيين، وأنكر أن يكون هدف الإصلاحيين الانفصال عن الدولة العثمانية إنما هدفهم الإصلاح فحسب.

وذكر أنه في هذه الفترة استدعى جمال باشا كل من عبد الغني العريسي وعبد الكريم الخليل ومحمد كرد علي وعبد الرحمن الشهبندر، وبسط لهم الوضع السياسي والعسكري وادعى أن تحرير العالم الإسلامي من السيطرة الأجنبية يمكن تحقيقه إذا انتصرت الدولة العثمانية. فوافقوا على أقواله وأقسموا بالله وبشرفهم أن يظل عرب سورية وفلسطين موالين للحكومة طول مدة الحرب. غير أن أمراً فجائياً وقع أدى إلى تبدل ثقة جمال باشا بالإصلاحيين، فقد جاءه إلى القدس كامل الأسعد وذكر له بأن عبد الكريم الخليل نفسه ورضا الصلح يقومان بثورة في صيدا وصور ضد الدولة. وبناء على هذه الوشاية بدأ جمال باشا يشك بكل الإصلاحيين، فحولهم إلى محاكمة الديوان العرفي في عاليه. وكان عبد الغني العريسي قد حاول الهرب إلى الحجاز غير أنه ألقي القبض عليه. وبدأت محاكمته، ويورد الكتاب الرسمي الصادر عن جمال باشا (إيضاحات عن المسائل السياسية) الكثير من أقوال عبد الغني العريسي وبينها أن رشيد رضا ذكر له منذ حوالى السنتين والنصف أنه فهم من مصدر رسمي كبير يعني به الخديوي أن الحرب البلقانية ستكون نتيجتها تقسيم الدولة العثمانية، وأن نصيب سورية سيكون لفرنسة من خط حيفا إلى إسكندرون ولإنجلترا من خط حيفا إلى مصر مع جزيرة العرب... كما أشار عبد الغني العريسي إلى مؤتمر باريس عام 1913 وإلى عدم نية المؤتمرين الإصلاحيين بالوقوف إلى جانب فرنسا أو أية دولة أجنبية ضد الدولة، وذكر عبد الغني العريسي للمحكمة بأن أحمد مختار بيهم قال لوزير الخارجية الفرنسية: أننا نحترم الفرنسيين ولكن لا نرضى أن يكونوا رؤساء علينا بل نرغب معاضدتهم في إصلاح أحوالنا بشرط أن نبقى عثمانيين وليس السوريون كما قيل لكم أنهم يفتحون صدورهم لفرنسة. وأضاف عبد الغني العريسي بأن المسيحيين في الوفد قد اغتاظوا من تصريح أحمد مختار بيهم، وأنه أثر ذلك كتب بيشون إلى كل القناصل في البلاد العثمانية يقول: أنه تحقق لدينا أن الحركة الإصلاحية قد انقلبت علينا من تصريح الوفد، ولذلك أظهروا أنفسكم أنكم تساعدونها لاكتساب قلوب الأهلين وفي الخفاء أسعوا لقتلها. وقد عثر على هذا التقرير أيضاً في القنصلية الفرنسية في بيروت.

 

الحكم بالإعدام  ووصية الشهيد

وفي 6 أيار 1916 أعدم عبد الغني العريسي في ساحة البرج (الشهداء فيما بعد)، ومما ذكره قبل إعدامه: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن الخلافة للعرب إن شاء الله» ومما جاء في وصيته قبل إعدامه:

«يا بني العرب ويا سلالة قحطان... أوجه خطابي هذا إليكم وأنا على شفير هاوية الموت وبين براثن الوحش التركي الذي خرّب بلادكم ودمّر بيوتكم ويتّم أطفالكم... إنني خدمت أمتي وبلادي حتى آخر نقطة من دمي، ولست بالفدائي الأول الذي يموت اليوم في سبيل القومية العربية، فالرفاق كثروا والغاية التي نقوم بها وندعو إليها تقتضي ضحايا كثيرة لأن أركان الحرية والاستقلال لا تثبت إلا على الدماء الذكية». وأخيراً طلب من جميع العرب الاتحاد والوفاق لما فيه خير بلادهم وتحقيق استقلالهم وحريتهم، وطالب بعدم التمييز بين الطوائف والمناطق «بل الجميع عرب وفي العرب وللعرب لا لبناني ولا بيروتي ولا شامي ولا حلبي ولا حمصي ولا حموي. فحظ بيروت هو حظ لبنان، وحظ الشام وحلب وفلسطين والعراق والحجاز واليمن...».

ولا بد من الإشارة أيضاً بأن سياسة العثمانيين بعد عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) باتت سياسة معادية متعصبة ضد كل ما هو عربي، وعرف عن جمعية الاتحاد والترقي أنها جمعية موالية للصهيونية والماسونية، تؤمن بالطورانية وبالتعصب للقومية التركية، وبإذلال ما هو غير تركي، بالإضافة إلى أنها هي التي شجعت على نشر مصطلح «بيس عرب» أي «عربي قذر». لذا فإن مطالبة الشهيد عبد الغني العريسي وسواه من الإصلاحيين بالإصلاح والحرية واللامركزية كانت من المسلمات السياسية وسمة من سمات العصر في بيروت المحروسة والولايات السورية.

كان عبد الغني العريسي يتصف بالكرامة وعزة النفس، انطلاقاً من مفاهيمه العربية، وكان يكره التزلف أو ما أسماه «التمجّد»، لأن العرب والعروبة حضارة وأصالة، لذا أنكر على العثمانيين، بل على السلطان العثماني نفسه محمد الخامس (رشاد) عبارات التمجد .

إنطلق عبد الغني العريسي من مفاهيم عربية وإسلامية سامية، ورفض الطائفية والمذهبية. وكان يعتز بالدين الإسلامي، ويرى أنه دين الحرية والمساواة والإخاء، غير أنه دعا في الوقت ذاته إلى جامعة وطنية ينضم إليها المسلم والمسيحي واليهودي.

 

  //-->