سرسق 

سرسق هي إحدى عائلات بيروت الأرستقراطية التي تنتمي إلى طائفة الروم الأرثوذكس وارتبط اسمها بأبرز الأحداث اللبنانية منذ القرن التاسع عشر.

هي من اصل بيزنطي، اتت الى لبنان في اواخر القرن السادس عشر، وتعود اصول العائلة الى مدينة مرسين (في جنوب تركيا) حيث كانت، وما تزال، تملك اراضي في تلك المنطقة.

اول شخص من آل سرسق ولد في بيروت هو جبور، وذلك سنة 1712. نجحت العائلة، بفضل ثروتها، في نسج علاقات وطيدة مع الحكام الأجانب، بدءا من السلطنة العثمانية ولاحقاً سلطنة الانتداب الفرنسي.

خلال القرن التاسع عشر، كانت عائلة سرسق تتمدد في مختلف ارجاء الشرق الاوسط من قبرص الى فلسطين، حيث كانت تمتلك اراضي شاسعة، ولا سيما في مصر حيث كانت تربط بعضهم علاقة وثيقة بالخديوي سعيد وفيما بعد اسماعيل باشا. وقد ادت هذه الصداقة الى تمويلهم نسبة كبيرة من تكاليف قناة السويس، لا سيما ان المخططات كانت قد وُضعت ايام الخديوي سعيد ونُفذت خلال عهد اسماعيل باشا.

الفيلا الاقدم يعود تاريخ بنائها الى عام 1840، اما قصر الليدي كوكرن الذي استثمره اصحابه اليوم لإقامة الحفلات والاعراس في حدائقه المترامية، فمملوك من إيفون سرسق المتزوجة من لورد إيرلندي من آل كوكرن.

وقد شيّده موسى سرسق (جدّ الليدي كوكرن) في عام 1860، وقد ورثته الليدي كوكرن عن والدها ألفرد. والجدير ذكره انه الى جانب القصر توجد فيلا لآل سرسق لا تظهر للعيان من الشارع العام انما نراها من حدائق القصر. وتبلغ مساحة العقارين 11 الف متر مربع. اما فيلا ليندا وابراهيم سرسق (تملكها كريماتهما ويستثمرها اليوم صاحب المشاريع السياحية بشارة نمور للحفلات)، فيعود تاريخ بنائها الى عام 1880، وقد اجري منذ مدة تعديل للواجهة الشمالية. اما مبنى وزارة الخارجية، والذي هو اساساً قصر لآل بسترس، فيعود تاريخه الى عام 1880. والمبنى الخاص اليوم ببنك عودة شُيّد في عام 1907. ويبقى الاحدث وهو قصر نقولا سرسق ويعود تاريخ بنائه الى عام 1910.

والجدير ذكره ان الراحل نقولا سرسق وهب قصره بعد وفاته في عام 1952 الى مدينة بيروت، على ان يتحوّل متحفاً للفنون الحديثة كما ذكر في وصيّته، لا سيما انه لم يتزوج. ومن شروط هذه الوصيّة ان يكون رئيس بلدية بيروت مشرفاً على المتحف، وان تدير شؤونه ـ من غير اي مقابل ـ نخبة من الشخصيات البيروتية.

والجدير ذكره انه ما بين سنة 1953 و1975 استخدم القصر بموجب مرسوم جمهوري لاستضافة ملوك ورؤساء زاروا لبنان رسمياً، ومنهم الملك سعود بن عبد العزيز وملك اليونان. وبما ان الراحل نقولا سرسق اراده متحفاً، فقد تحوّل القصر الى متحف يضم قطعاً من الانتيك والمقتنيات الثمينة التي وجدت في القبو منذ فترة. واليوم يقام فيه بين الحين والآخر، معرض للوحات الثمينة. وعموماً يتراوح تاريخ البناء في هذا الشارع بين سنة 1860 وسنة 1910.

وعن الطابع الهندسي في هذا الشارع اخبرنا المهندس وعضو الهيئة التنفيذية «لجمعية تشجيع حماية المواقع الطبيعية والابنية القديمة في لبنان» فضل الله داغر ان تشابه الابنية، ليس نتيجة ان اصحابها ينتمون الى عائلة واحدة وهي آل سرسق، او تعمدوا اعطاء الشارع طابعاً هندسياً خاصاً، انما، كان طابع العمارة في كل بيروت، وحتى البيوت الصغيرة. وحصل ذلك بعدما هدموا سور بيروت في عام 1840، ففُتِحت شوارع جديدة ما ادى الى بروز احياء جديدة، تطورت شيئاً فشيئاً، منها «الجميزة» وحي «البسطا» و«السوديكو ـ طريق الشام»، اي ان كل المناطق حول وسط بيروت (آنذاك) تطورت وانتعشت فيها الحياة، بعدما هدم السور، لأن المدينة إمتدت اليها، وامتد توسع المدينة في ما بعد، الى المناطق المحيطة بالوسط والتي تعرف بـ«الحزام» كالباشورة والظريف وزقاق البلاط، فخرجت العائلات الغنية من وسط المدينة، لتشيد منازل في البسطة والجميزة، وكان آل سرسق حينها خارج لبنان (وعلى الارجح في القاهرة) وكانوا يعتبرون من كبار التجار، فعند مجيئهم الى بيروت، ابتعدوا عن وسطها او عن الاحياء الجديدة التي ظهرت، فسكنوا في منطقة مرتفعة نوعاً ما (قديماً كان هناك من يأتي ليصطاف فيها اذ تقع على تلة) وتعرف بالاشرفية، وهي عبارة عن متدرجات، فسكنوا اول مدرج مطل على البحر، وشيدوا فيه هذه القصور والدور حتى انها سميت بشارع سرسق، نسبة الى ان غالبية الدور فيه تعود لهذه العائلة. وكان النمط السائد حينه عصرياً، اذ بعد عام 1840، بدأت القنصليات الاجنبية بالانتقال من صيدا الى بيروت، فأزدهر المرفأ وكبرت بيروت أكثر، لتصبح العاصمة الاقتصاية».

وشيد قصر الليدي ايفون سرسق كوكرن (ما يعرف اليوم بقصر الليدي كوكرن) في سنة 1860، ويعتبر بالنسبة لهذه الحقبة عصري الطابع. فلغاية عام 1840، كان الطابع الشرقي هو الطاغي، وهو يتمثل بالحجر مع وجود القناطر، لكن نتيجة موجة «العصرنة» السائدة آنذاك في كل من اسطنبول وبيروت، اتى القصر بطابع هندسي اوروبي. وفضلاً عن ذلك، فالعلاقات التجارية مع البندقية ومرسيليا، ادت الى استيراد مختلف مواد البناء، ففي عام 1860 استوردوا القرميد والحديد، وقبلاً لم تكن تعرف بيروت هذه المواد. ففي قصر الليدي كوكرن، درج داخلي بأكمله من الحديد، كما ان «البلوستراد» (أعمدة رخامية للشرفة) التي نراها في الفيلا من مخلفات الهندسة الاوروبية. ويُذكر ان واجهتا قصر الليدي كوكرن الشمالية والجنوبية لبنانيتان كلاسيكيتان. غير ان الشرقية والغربية تشبهان قصور صقلية في ايطاليا. وعموماً النمط الهندسي في جميع قصور الشارع مستوحى من الهندسة الاوروبية وغالباً الايطالية، وفي هذا الصدد تقول الليدي كوكرن ان جدها لم يستعن بمهندسين من الخارج فقد شيّد البيت ونفذه لبنانيون. وبالاحرى هناك بعض التفاصيل الهندسية التي أتت من الخارج، فالرخام الابيض (ارضية البيت) من مدينة Carrara الايطالية، وكذلك «الشمع» الذي يحمل القناطر الرخامية البيضاء.

وهذه البيوت الكبيرة، كانت نموذجاً للبيوت الصغيرة التي شيدت في ما بعد، فاستوحوا منها. وعموماً من سنة 1840 ولغاية 1860، كانت المنازل الواقعة حول المدينة، لبنانية الطابع، وابرز مميزات هذا الاسلوب، ثلاث قناطر في واجهة البناء وفي الداخل اي في دار البيت، وهذه التفاصيل موجودة في العمارة اللبنانية منذ سنة 1840. اما عن الهندسة الداخلية لهذه القصور فان الطابع الشرقي يغلب على فيلا ليندا وابراهيم سرسق، حيث احواض الماء الرخامية الكبيرة والقناطر. ويضيف المهندس داغر: «والدة ايفون سرسق كوكرن ايطالية الاصل، لذلك نجد الكثير من التحف الايطالية في القصر. الهندسة الداخلية في فيلا ليندا وابراهيم سرسق شرقية، وتحديداً عثمانية تركية، ففيها العديد من التحف الشرقية، فضلاً عن ان غالبية البلاط من السيراميك (الذي يعتبر شرقياً)، بالاضافة الى ذلك فالرسومات عليه وعلى الجدران شرقية الطابع، بالاضافة الى احواض الماء الكبيرة في وسط الدار وهي محض من الطابع الهندسي الشرقي، لكن بالمقابل، هندسة فيلا الليدي كوكرن، الداخلية، ليست ذات اسلوب اوروبي بحت، فمثلاً السقوف مزيج من الشرقي والاوروبي».

ومن القصور اللافتة في الشارع، قصر نقولا سرسق، مع باحة خارجية واسعة ودرجين يتلاقيان عند الواجهات الزجاجية الملونة (تقام اليوم فيه مختلف المعارض). وعن طراز هذه الفيلا، يخبرنا المهندس داغر: «هو مزيج من الهندسة الايطالية واللبنانية، التفاصيل الخارجية مستوحاة من الامبراطورية العثمانية.. وقد تم تجديد بعض اجنحته منذ فترة».

ولا يقتصر وجود القصور والدور في بيروت على شارع سرسق فقط، انما يمتد في مختلف شوارع الاشرفية واحياء تحيط بوسط المدينة (التي طورت بعد هدم السور كما سبق ان ذكرنا). ومن البيوت اللافتة، والتي يعود تاريخ تأسيسها الى سنة 1840، منزل آل ثابت في شارع «هوفلان» قرب جامعة القديس يوسف في الاشرفية، كما ان هناك العديد من العمارات التي تعود الى سنة 1870 وما زالت موجودة اليوم، كما ان هناك بيوتا جميلة وقديمة وتعود للنصف الثاني من القرن التاسع عشر لآل طراد وبسترس في الاشرفية ومحازية لشارع سرسق.

قصر سرسق

وبما ان هذه البيوت والقصور تعتبر بمثابة ثروة، فلا بد من الحفاظ عليها، وهذا ما يتبع في اي بلد، تتوفر فيه عمارات بهذه القيمة، ولهذا الغرض أنشأ، منذ فترة، مجموعة من المهندسين والمهتمين بالتراث ومن بينهم الليدي ايفون كوكرن «جمعية تشجيع حماية المواقع الطبيعية والابنية القديمة» التي تعمل بالتعاون مع وزارة الثقافة على المحافظة على هذه الابنية من خلال ايقاف هدمها، وعن هذا الموضوع، يخبرنا داغر: «قمنا بدراسات نطلب من خلالها المحافظة ليس فقط على عمارات او منازل، انما شوارع بأكملها، نظراً لطابعها المميز وقيمتها. وتحددت الشوارع حسب، كمية الابنية القديمة الموجودة فيها. ومن ابرز هذه الاحياء: القنطاري والظريف والباشورة والبطركية وشارع هوفلان في الاشرفية، كما ان هناك مناطق طلبنا وضعها تحت الدرس، لايجاد مخطط توجيهي لتطويرها مع المحافظة على رونقها القديم. ويجب وضع قانون يعين شروطاً محددة للبناء في هذه المناطق للمحافظة على طابعها. لكن للأسف المشروع لم يتطور. فهناك ابنية صنفت منذ فترة كممنوعة من الهدم، لكن اصحابها خافوا، لأنه ما من مقابل حدد لهم، تجاه هذا التصنيف.. وما من خطة حددت مصير هذه الابنية.. وهي عندما تصنف بغير قابلة للهدم، اي لا يستطيعون بيعها، خصوصاً ان كثيرين منهم في حاجة مادية لثمنها. وللأسف الدولة لم تساعدنا لوضع خطة على صعيد التنظيم المدني او تقديم مساعدات للترميم، او بدائل مادية ازاء الخطوة التي اتخذناها بتجميد الهدم. هناك اليوم الكثير من الابنية القديمة والقيمة ولكنها للأسف مهجورة ووضعها سيئ. ولقد طلبنا من وزير الثقافة تجميد الهدم، لاعداد دراسة تفصيلية. وجمد الهدم، لكن بالمقابل ما من تطمينات للمالكين، وزير الثقافة الحالي غسان سلامة، لا يعطي تراخيص هدم، لكن القانون الجديد للمحافظة على الابنية القديمة لم يمرّ بعد على مجلس النواب ولا على مجلس الوزراء. ومن المهم جداً الحفاظ على هذه الثروات الهندسية، لكن يجب ايضاً التفكير ببديل لاصحاب الملك، كي لا يظلم احد، لكن حالياً التفكير بهذا لأمر صعب، نظراً لقلة السيولة التي تعاني منها الدولة. وفي بيروت الابنية القديمة كثيرة، ومنها ما زال اهله يعتنون به، كمنزل آل تويني في شارع نقولا، وبيت آل مشيّخ في زقاق البلاط. ومن القصور المميزة قصر الرئيس الراحل بشارة الخوري، الذي اشتراه رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري قبل بضعة اعوام. وبرأيي، انه يجب ايجاد مخطط خاص بشارع سرسق لتحديد شروط البناء فيه، فتشييد عمارة «مودرن» وسط هذا الكمّ من القصور التي يعود تاريخها الى القرن الماضي، يشكل مشكلة من الناحية الفنية».

وقد جمعت العائلة ثروتها في القرن التاسع عشر من الزراعة، الصيرفة وثم من الصناعة فملكوا عدد من المصارف والشركات. وامتلكت أراض تمتد من تركيا وصولاً إلى مصر ومروراً بلبنان وفلسطين. هذا الثراء أفسح في المجال أمام العائلة نسج علاقات مع دول، بدءاً من السلطنة العثمانية ومروراً بسلطنة الانتداب الفرنسي ومصر وروسيا.

 

جدل بيع الاراضي

كان الكثير منهم يعيش في باريس وقد خسروا اموالهم في القمار. كانت تملك الكثير من الأراضي في عهد الدولة العثمانية. وقد باعت اراضي واسعة جدا لليهود فسهلت لهم اقامة كيانهم ولكن حينما جاء الانتداب ألبريطاني إلى فلسطين كانت تملك عائلة سرسق 400 ألف هكتار من الأراضي الخصبة تضم ما يقارب 77 قرية في مرج بن عامر شمال فلسطين، التي تسكنها 6452 أسر عربية.كانت تلك الاراضي تمثل ما يقارب 3 % من مساحة فلسطين. وقد باعتها عائلة سرسق المسيحية بسبعة ملايين فرنك هدم منازل القرى والمدن العربية وطرد السكان أمام جحافل من الجنود البريطانيين وتم تسليم الأراضي لليهود ،ودمرت القرى العربية، وأكثر من 65 مسجدا وهناك بنى اليهود المستعمرات في 1921. وفي 1922 باعت العائلة عشرات الآلاف من الفدادين الواقعة على الساحل اللبناني للصهاينة.

يشعر المار بشارع سرسق في منطقة الاشرفية (شرق بيروت) انه عاد الى ردهات القرن التاسع عشر، فالماضي بغناه وتراثه يمتد على طول هذا الشارع عبر القصور الشاسعة النائمة على كتف التاريخ والاشجار الشاهقة التي تظلله على الجانبين. ويحتار المار في اي قصر يحدّق، من قصر ليندا وابراهيم سرسق، الى قصر ومتحف نقولا سرسق الذي يتميز بأدراجه ذات الهندسة الاخاذة وواجهته التي تتخللها قناطر وواجهات زجاجية ملونة.. وصولاً الى القصر ذي الحدائق الشاسعة وهو قصر الليدي كوكرن. الحي قائم في منطقة الاشرفية منذ اكثر من 150 عاماً واستمد اسمه، نسبة لقصور آل سرسق التي شُيدت فيه في منتصف القرن التاسع عشر.