القهار

القهر في اللغة هو السيطرة والغلبة .. والاسم (قاهر)، والقهار اسم على وزن صيغة المبالغة (فعال) وهو اسم من أسماء الله الحسنى وهو يعني أنه لا شيء في الكون يخرج عن سيطرته وغلبته .. كل شيء خاضع لأمره في حركته وفي سكونه، ولا يمكن لمخلوق أن يخرج عن هذه السيطرة الإلهية بحال من الأحوال.

وعن هذا القهر الإلهي يقول الحق عز وجل: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحدٍ من بعده إنه كان حليماً غفوراً "41" (سورة فاطر)
ولا يتصور أحد أن الإمساك المشار إليه في هذه الآية الكريمة هو إمساك باليد وما إلي ذلك من التصورات المادية .. بل هو إمساك بالقهر والغلبة .. إمساك الكلمة (كن فيكون) .. وهذا الثبات الكوني لا ينحل إلا بالكلمة أيضا ولذلك يقول جل وعلا: حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقومٍ يتفكرون (سورة يونس ـ 24)

والكون بكل ما يحتويه يدل على صفة القهر لدى الله عز وجل .. فإذا نظرت نظرة عابرة إلي الكون وجدت أن كل مخلوق يسير وفقا للغاية التي أرادها الله من خلقه .. انظر إلي الشمس والقمر .. الليل والنهار، تجد أنها كما أخبرنا الله عز وجل: والشمس تجري لمستقرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم "38" والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم "39" لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلكٍ يسبحون "40" (سورة يس)

فالشمس تجري لمستقر لها في فلك خاص بها .. والقمر في فلكه الخاص .. وليس للشمس أن تقترب من مداره ولا للقمر أن يقترب من مدارها .. كل منهما يسير في الخط المرسوم ولا يخرج عنه، مما يحول دون التصادم بينهما .. وهذا الأمر ينطبق على حركة الأفلاك جميعا وليس الشمس والقمر فحسب .. ولكن الله عز وجل حين يضرب الأمثال يضربها بما هو واضح للعيان، وكذلك الليل والنهار يتعاقبان بانتظام .. فلا يأتي النهار قبل ميعاده أو يحل الظلام قبل أوانه وفي ذلك يقول جل وعلا: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين "54" (سورة الأعراف)
كل شيء مسخر وخاضع للقهر الإلهي المطلق، حتى أعمال العباد، فمن كفر أو أشرك أو عصى فإنه لم يخرج عن إطار هذا القهر، وفي ذلك يقول جل وعلا:ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "99" (سورة هود)

فالحق سبحانه وتعالى قادر على هدايتنا جميعا، ويستطيع أن يقهرنا على الإيمان، ولكنه لم يشأ ذلك وشاء أن يمنحنا الاختيار. ويخضعنا للاختبار. فالمسلم يختبر في افعل ولا تفعل، وغير المسلم يختبر هل سيقدر الله حق قدره فيبحث عن طريق الهداية والحق أم يعرض ويتناسى، وحتى يكون الاختبار حقيقيا فتح الله عز وجل المجال أمام المعاصي ليعصي والكافر ليكفر والمشرك ليشرك .. فالكل إذن في ظلال دائرة القهر .. والكل لم يخرج عن الإرادة الإلهية. ومن الآيات القرآنية التي أثارت جدلا في هذه القضية قول الحق عز وجل: والله خلقكم وما تعملون "96" (سورة الصافات)

إذ أراد البعض أن يجعلها دليلا على أن الإنسان يسير سيرا مطلقا في ظل القهر الإلهي .. ويكون بذلك مجبرا في كل أفعاله، بزعم أن أعمالنا مخلوقة كما أشارت الآية الكريمة .. والحقيقة أن هذا فهم خاطئ، ونوضح معنى هذه الآية بمثال .. هب أن إنسانا قفز إلي منزل وقتل صاحبه وسرق ما به من مال .. فهل هذا يعني أن الله عز وجل هو الذي خلق فعل القتل الذي قام به هذا الشخص وفعل السرقة الذي آتاه .. بالقطع كلا .. لأن الذي خلقه الله عز وجل هو إمكانية القيامة بفعل معين وليس فعلا محددا بذاته.

إن الله عز وجل الذي أعطاك يدا تبطش بها ورجلا تسير عليها قد جعل في إمكانك أن تقتل أو تسرق، كما جعل في إمكانك أن تصلي وتتصدق، فإذا قتلت إنسانا بيدك وقيل: إن الله هو الذي خلق هذا القتل فإن هذا يعني أنه جلا وعلا قد جعل في إمكانية يدك أن تقتل، وليس معنى ذلك أنه هو الذي دفعك وقهرك على قتل من قتلت. كذلك إذا صليت فإن الله عز وجل هو الذي خلق فعلك للصلاة بمعنى أنه جعل في إمكان بدنك أن يؤدي الصلاة، وليس معنى ذلك أنه قهرك على أدائها.
إن كل عمل يؤديه العباد مخلوق، بمعنى أن الله عز وجل هو الذي أعطى العباد إمكانية القيام به، وفي هذا المعنى يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه القيم (إحياء علوم الدين): (إن انفراد الله سبحانه وتعالى باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الاكتساب). وعلى هذا النحو يمكن فهم قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين "29" (سورة التكوير)

فلولا أن الله عز وجل قد جعل في إمكان الإنسان أن يكفر لما استطاع أن يكفر، ولو لم يجعل في إمكانه أن يعصي لما استطاع أن يعصي كشأن الملائكة. وبهذا المعنى فإن مشيئة الإنسان لم تخرج عن مشيئة الله عز وجل، وعمل الإنسان لم يخر عن القهر الإلهي. ومن الآيات التي أوحت للبعض بأن الإنسان مقهور على أعماله قوله تعالى: ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها وإن ذلك على الله يسير "22" (سورة الحديد)

فقالوا: إن قوله جل وعلا: (في كتاب من قبل أن نبرأها) يعني من جهة أن هذه المصيبة من خلق الله، كما يعني أنها مكتوبة من قبل أن تقع. ونقول ردا عليهم: إنه فيما يتعلق بكون هذه المصيبة مخلوقة فقد أوضحنا هذا المعنى في شرح قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون)، وفيما يتعلق بكونها مكتوبة قبل أن تحدث فهذا صحيح .. ولكن نبادر فنقول: إن هذه الكتابة قد بنيت على علم الغيب الذي ينفرد به الله عز وجل. فالحق تبارك وتعالى عالم بالأحداث قبل أن تقع .. فإذا كتبها وحدثت بعد ذلك فإن هذا لا يعني أننا ننفذ ما كتبه الله علينا قهرا.

ولتوضيح ذلك، هب أن شخصا قام بتسجيل حلقة علمية أو دينية على شريط فيديو، فهل يمكن أن نقول إن هذا الشخص كان له تأثير على مجريات هذه الحلقة، هذا مع الأخذ في الاعتبار الفرق الشاسع بين المثال السابق وحقيقة الكتابة الإلهية؛ لأن الله عز وجل ليس منقطع الصلة بأعمال العباد .. فهو الذي يزيد الذين اهتدوا هدى .. وهو الذي يمد الطغاة في طغيانهم يعمهون، هذا فضلا عن أن هناك أحداثا تقع بالإرادة المطلقة له عز وجل، بمعنى أنه قدرها وكتبها لتحدث .. أي ليست الكتابة المبنية على كشفه عز وجل للغيب المستور. ومن هذه الأحداث .. الميلاد والموت .. الصحة والمرض .. الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وخلافه.

ومن الخطأ الجسيم أن يزعم إنسان أن الله عز وجل قد كتب عليه مقدما أنه من أهل النار أو من أهل الجنة، وأنه مهما فعل لن يغير المكتوب؛ لأنه وكما ذكرنا من قبل أن هذه الكتابة لم تفرض علينا أعمالنا .. بل إن الله عز وجل قد كشف الغيب المستور وشاهد الأعمال قبل أن تقع فسجلها بعلمه للغيب، وليس على الإنسان أن يشغل باله بهذه المسألة ويجب أن يضع في ذهنه قول الله عز وجل:يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب "39" (سورة الرعد)

وأؤكد على هذه الجزئية لأنني كثيرا ما أسمع شخصا يقول: ما فائدة الأعمال الصالحة إذا كان الله عز وجل قد كتب علي من البداية أنني من أهل النار؟ .. وهذا الكلام محض هراء، ونقول لقائله: ومن الذي أدراك ما الذي كتبه الله لك؟ .. ولماذا افترضت أنك من المدرجين مع أهل النار وليس مع أهل الجنة؟
إن فكرة المصير المحتوم مسبقا إلي الجنة أو إلي النار فكرة خاطئة، ومادمت أنك على قيد الحياة فتؤمن أن مصيرك لم يتحدد بعد، ولو كان العلم الإلهي المسبق بالأحداث بهذا المعنى الخاطئ الذي يفهمه هذا الشخص لما قال المولى عز وجل:وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي} (سورة البقرة ـ 186)

إذ ما معنى أن يستجيب الله عز وجل للدعاء والمصير محتوم ومعلوم؟ ولماذا قال أيضا في الحديث القدسي: (يا ابن آدم أنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) فما ما معنى أن نستغفر على الذنوب والمصير محتوم ومعلوم؟
إنه لا تعارض مطلقا بين القهر الإلهي المطلق وبين الاختيار البشري .. وندعو الله عز وجل أن يفتح بصائرنا لنفهم هذه الأمور على وجهها الصحيح. ومن القضايا التي أود أن أتحدث عنها أيضا هي قول البعض بأن الأحداث التي تقع بالإرادة المطلقة لله عز وجل كالميلاد والموت .. الصحة والمرض، قد يكون لها تأثير على اختيار الإنسان، وضربوا مثلا لذلك بمن يولد على غير الإسلام ومن يموت شابا قبل أن يصل إلي مرحلة الشيخوخة والتي دائما ما يعود فيها الإنسان إلي خالقه.

ولهؤلاء نقول: إن العدل الإلهي المطلق لا تفوته أشياء قد استوقفت عدلكم المحدث، فعدلكم نفحة من العدل الإلهي ونقول لهم: إن هذه الأشياء مأخوذة في الاعتبار في الدنيا والآخرة .. وليس أدل على ذلك من أن الكافر أو المشرك إذا رجع عن كفره أو شركه فإن الله عز وجل يغفر له ما تقدم من ذنبه، وهذه منحة ليست في يد المسلم .. كما أنها مأخوذة في الاعتبار يوم القيامة، والحق سبحانه وتعالى يقول: إن الله لا يظلم مثقال ذرةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً "40" (سورة النساء)

واسم الله (القهار) قد ورد مقترنا باسمه (الواحد) في العديد من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (سورة الرعد ـ 16)

وقوله تعالى: قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار "65" (سورة ص) وهو جل شأنه القهار منذ الأزل إلي الأبد .. وسوف ينادي يوم القيامة ويرد على نفسه قائلا: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (سورة غافر ـ 16)

 [ عودة للقائمة الرئيسيّة ]

  //-->